فصل: تفسير الآيات (52- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (52- 55):

{قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ}.
هذا هو نهاية الموقف الذي يقفه النبي من المشركين... إنه يشهد اللّه عليهم، أنه بلّغهم رسالة ربّه، وأنهم في عناد وتكذيب... واللّه سبحانه وتعالى يعلم ما في السموات والأرض، ويعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وما يعلنون... وعند اللّه سبحانه عذاب شديد للضالين المكذبين، الذين يؤمنون بالباطل، ويقيمون في رحابه آلهة يعبدونها من دون اللّه.. إنهم هم الخاسرون.. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين يتحدّون النبيّ باستعجال العذاب الذي ينذرهم به، إذا هم لم يؤمنوا باللّه، ولم يصدّقوا رسوله، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى عنهم: {وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [32: الأنفال].
وقوله تعالى: {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ}.
.. والأجل المسمّى هو ما قدّره اللّه تعالى في علمه، ووقّت له وقته الذي يقع فيه، بما قضى به في عباده... وإن أي أمر لا يقع إلا في وقته الموقوت له.. وإنه لولا هذا الأجل الموقوت للعذاب المرصود لهؤلاء المشركين، لوقع بهم عند طلبهم له... فلم يستعجلون هذا البلاء؟ إنه لواقع بهم لا محالة، ولكنه سيأتيهم من حيث لا يشعرون... لأنهم لا يتوقعونه، ولا يعملون على توقّيه بالإيمان والعمل الصالح، فإذا وقع بهم دهشوا له، وبغتوا به! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
.. والعذاب هنا، هو العذاب الأخروى، كما يفهم من الآية التالية... والبغتة: المباغت المفاجئ.
قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ}.
هنا استفهام إنكارى، أي أيستعجلونك بالعذاب؟ وكيف يستعجلون به، وهو واقع بهم فعلا؟ إنهم سائرون على الطريق الذي يهوى بهم في جهنم... فهم بما هم عليه من كفر وضلال، واقعون في دائرة العذاب، ولن يخلصوا من العذاب إلا إذا تخلصوا من كفرهم، وتطهروا من شركهم، ودخلوا في حظيرة الإيمان.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وإذا لم يكن هؤلاء الضالون يستشعرون الخطر الذي هم فيه، ولا يرون جهنم المحيطة بهم في الدنيا، فإنهم سيرون ذلك عيانا، ويذوقونه نكالا وبلاء، يوم القيامة، يوم يأخذهم العذاب، ويشتمل عليهم، من رءوسهم إلى أقدامهم، ويوم يقول لهم الحق سبحانه وتعالى: {ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
فهذا هو عملكم الذي كنتم تعملونه في الدنيا... لقد عملتم شرا فطعموا من هذا الشر!.

.تفسير الآيات (56- 60):

{يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}.
مناسبة هذه الآية والآيات التي بعدها للآيات السابقة، أن الآيات السابقة كانت حديثا إلى المشركين من قريش، وما يتحدون به رسول اللّه من إنزال آية مادية عليهم، ومن استعجال العذاب الذي يتهددهم به- فجاءت الآيات بعد هذا حديثا إلى المسلمين الذين كانوا قلة مستضعفة في مكة، يلقاهم المشركون بالضر والأذى، ويأخذون عليهم كل سبيل إلى الاجتماع بالرسول، أو الصلاة في المسجد الحرام، أو الجهر بتلاوة القرآن... إلى غير ذلك مما كانت تضيق به صدور المسلمين، وتختنق به مشاعر الإيمان في كيانهم، وتختفى به مظاهره على ألسنتهم وجوارحهم- جاءت هذه الآيات لتفتح للمسلمين طريقا رحبا إلى النجاة من هذا الضيق، والخلاص من هذا البلاء.
إن أرض اللّه واسعة، وإذا ضاقت أرض بإنسان فإن من الخير له أن يتحول عنها إلى غيرها، حيث يجد في الأرض مراغما كثيرة وسعة.
وفي قوله تعالى: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا}.
وفي إضافة الذين آمنوا إلى اللّه سبحانه وتعالى، وندائهم إليه من ذاته جل وعلا- في هذا احتفاء بهم، واستضافة لهم في رحاب رحمة اللّه وفضله وإحسانه.. وذلك لأنهم مدعوون إلى الهجرة من ديارهم، والانفصال عن أهلهم وإخوانهم، وذلك أمر شاق على النفس، ثقيل الوطأة على المشاعر، التي ارتبطت بالموطن ارتباط العضو بالجسد.
فكان من لطف اللّه سبحانه بعباده هؤلاء المؤمنين، الذين دعاهم إلى الهجرة من ديارهم- أن استضافهم في رحابه، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه، بهذا الدعاء الرحيم، الذي دعاهم به سبحانه، إليه... {يا عبادى}.
فمن استجاب منهم لهذا النداء، وأقبل على اللّه مهاجرا إليه بدينه، تلقّاه اللّه سبحانه بالفضل والإحسان، وأنزله منزلا خيرا من منزله، وبدّله أهلا خيرا من أهله!.
وقد استجاب المسلمون لهذا النداء، فخرجوا مهاجرين إلى اللّه، أفرادا وجماعات، وكانت الحبشة أول متجه اتجه إليه المسلمون المهاجرون، فأنزلهم اللّه أكرم منزل، هناك.. ثم كانت الهجرة إلى المدينة، التي أصبحت مهاجر المسلمين من كل مكان، بعد أن هاجر الرسول الكريم إليها.
وهناك وجد المهاجرون إخوانا، شاطروهم دورهم وأموالهم، وآثروهم على أنفسهم بالطيب من كل شيء.
وأكثر من هذا، فإن مجتمع المهاجرين هؤلاء الذين ضمتهم مدينة الرسول، كانوا الوجه الذي تجلى فيه دين اللّه، وعزت به شريعته.. ومن هؤلاء المهاجرين، كان صحابة رسول اللّه، وخلفاء رسول اللّه.
وأكثر من هذا أيضا، فإن القرآن الكريم، قد أجرى ذكرا خالدا لهؤلاء المهاجرين، وأشار إلى منزلتهم العليا عند اللّه، وما أعد لهم من أجر عظيم، وثواب كريم، لم يشاركهم في هذا أحد من المسلمين، إلا الأنصار، الذين نزل المهاجرون ديارهم، ووجدوا ما وجدوا من برهم وإحسانهم.
وهكذا، استظل المهاجرون بظل هذا النداء الكريم... {يا عبادى} فكانوا منه في نعمة سابغة، وفضل عظيم، في الدنيا والآخرة جميعا.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ}.
.. توجيه لأنظار المسلمين إلى سعة ملك اللّه سبحانه وتعالى، وإلى أن يمدوا أبصارهم إلى أبعد من هذا الأفق الضيق المحدود، الذي يعيشون فيه، والذي يحسب كثير منهم أن الأرض كلها محصورة في هذه الرقعة التي يتحركون عليها، ويضطربون فيها.. وكلا فإن أرض اللّه واسعة، أكثر مما يتصورون... فليخرجوا من محبسهم هذا، ولينطلقوا في فجاج الأرض، الطويلة العريضة، وسيجدون في منطلقهم هذا، سعة من ضيق، وعافية من بلاء.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [100: النساء].
وقوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}.
... أي فاجعلوا عبادتكم لى وحدي، لا تشركون بعبادتي أحدا.
والفاء في قوله تعالى: {فَإِيَّايَ}.
تفيد السببية.. حيث كشف قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ}.
عن إضافة هذه الأرض إلى اللّه سبحانه، كما كشف عن سعة هذه الأرض، وأن أي مكان ينزل منها الإنسان فيه، هو في ملك اللّه... وإذ كان ذلك كذلك، وجب أن يفرد وحده سبحانه بالعبادة، كما أفرد جل شأنه بالملك.
هذا، والآية الكريمة دعوة سماوية إلى تحرير الإنسان، جسدا، وعقلا، وقلبا، وروحا، من كل قيد مادى، أو معنوى، يعطل حركته، أو يعوق انطلاقه، أو يكبت مشاعره، أو يصدم مشيئته، أو يقهر إرادته.
ففى أي موقع من مواقع الحياة، وعلى أي حال من أحوالها، لا يجد فيه الإنسان وجوده كاملا محررا من أي قيد، ثم لا يعمل جاهدا على امتلاك جريته كاملة- يكون ظالما لنفسه، معتديا على وجوده.
وإذا كانت دعوة الإسلام قد جاءت لتحرير الإنسانية من ضلالها، وفرضت على المؤمنين أن يجاهدوا الضلال والضالين، وأن يبذلوا في سبيل ذلك دماءهم وأموالهم، فإن الجهاد الحق في أكرم منازله، وأعلى درجاته، هو الجهاد في تحرير المؤمن نفسه أولا، وفي تخليصها من كل قيد يمسك بها على مربط الذل والهوان، ويحملها على أن تطعم من مطاعم الذلة والمهانة، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً} [97: النساء].
فلقد توعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم في الآخرة، لأنهم باستخزائهم وضعفهم، قد باعوا دينهم، واسترخصوا مروءتهم، فكانوا سلعة في يد الأقوياء، لا يملكون معهم كلمة حق يقولونها، ولا يجدون من أنفسهم القدرة على دعوة خير يدعون بها... وإنه هيهات أن يسلم لإنسان دين أو خلق، إلا إذا تحرر من كل ضعف واستعلى على كل خوف.
ومن هنا كانت دعوة الإسلام متجهة كلها إلى تحرير الإنسان، عقلا وقلبا وروحا، كما كانت دعوته إلى تحرير الإنسان وجودا وجسدا.
وقد يكون الإنسان حرا طليقا في المجتمع الذي يعيش فيه، لا يرد عليه من الجماعة وارد من ضيم أو ظلم، ومع هذا فهو أسير شهواته، وعبد نزواته، وتبيع هواه... لا يملك من أمر وجوده شيئا... ومن هنا كان أول ما يجاهد الإنسان هو جهاد النفس، والأهواء المتسلطة عليه منها، وهذا ما قصد إليه الرسول الكريم من قوله، وقد عاد من إحدى غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا يا رسول اللّه: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس».
قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ}.
هو تهوين من شأن الدنيا في عين المؤمنين الذين يتهيّئون للهجرة.. فقد يحضر كثيرا منهم- وهو يأخذ عدته للهجرة- وارد من واردات الإشفاق على الأهل والولد، وما يلقى من لهفة وحنين لفراقهم، وما يجدون هم من أسى وحسرة لبعده عنهم.. إلى غير ذلك مما يقع للمرء من تصورات وخواطر في مثل هذا الموقف- فجاء قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} مهوّنا من شأن هذه الحياة الدنيا، فإن نهاية كل حىّ فيها هو الموت.. وإذ كان ذلك هو شأنها، فإنّ التعلق بها وبأهلها، وبأشيائها، هو متاع إلى حين، ثم ينصرم الحبل بين الإنسان وبين كل ما يمسك به من هذه الدنيا، طال الزمن أو قصر- فإذا كان ما يمسك الإنسان من هذه الدنيا شيء يحول بينه وبين الطريق إلى اللّه، وإلى ما عند اللّه من ثواب عظيم وأجر كريم- فإن هذا الشيء مهما غلا، هو عرض زائل، وظل حائل، لا حساب له إلى جانب الباقيات الصالحات، وما وعد اللّه سبحانه عليها، من رضوان وجنّات فيها نعيم مقيم.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
فهذه هي الحياة الباقية، التي ينبغى للإنسان أن يعمل لها، ويحرص الحرص كلّه على ألّا يعوّقه شيء- أيّا كان- عن السعى في تحصيل كل ما هو مطلوب لها... فالذين آمنوا باللّه، وعملوا الصالحات، موعودون من اللّه سبحانه وتعالى أن ينزلهم من الجنة أكرم منازلها، وأن يحلّهم منها في غرفات يجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، لا يتحولون عنها... وذلك هو جزاء العاملين، وإنه لنعم الجزاء.
وإن أبرز صفات العالمين، الذين يداومون على العمل ويحسنونه، هو الصبر، والتوكل على اللّه، فبالصبر يقهر الإنسان كل دواعى الضعف والتخاذل، وبالتوكل على اللّه والتسليم له، وتفويض الأمور إليه، يحلو المرّ، ويستساغ الضرّ... وبهذا يظل العامل آخذا مكانه في موقع العمل، فيما يرضى اللّه، لا يتحول عنه أبدا.
وفي قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} وعد مؤكد، بالقسم، ونون التوكيد... وليس وعده سبحانه في حاجة إلى توكيد، فهو محقق لا شك فيه... ولكن لتطمئن قلوب المؤمنين، ولتثبت أقدامهم على الطريق الشاق الذين يأخذونه إلى الهجرة، وما يعترضهم عليه من دواعى الإشفاق من فراق الأهل والولد.
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
هو تطمين لقلوب المسلمين المدعوين إلى الهجرة، والذين استجابوا لها، وأعدّوا العدة لإمضائها، أو للذين هم قد هاجروا فعلا، وانقطعت موارد رزقهم التي كانت في أيديهم، بين أهلهم وفي ديارهم... وإنه لن يأسى المسلمون على ما تركوا وراءهم من مال ومتاع، ولن يهتمّوا كثيرا لأمر المعاش، ولن يشغلوا به... فاللّه سبحانه الذي يرزق الدواب في القفار، والطيور في السماء، هو الذي يتكفل بأرزاق الناس، وأن سعيهم في وجوه الأرض، وما يبذلون من حول وحيلة، إنما هو أسباب موصلة إلى ما قدّر اللّه لهم من رزق... ولن ينال أحد مهما جدّ وسعى غير ما هو مقدور له.
وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} إشارة إلى أن كثيرا من الدواب لا تستطيع أن تحمل رزقها، أي تحصّله بنفسها، وتصل إليه بسعيها.. وأقرب مثل لهذا مواليد الحيوان، حيث سخّر اللّه لها الأمهات والآباء لتعمل على إطعامها، بل وتزقّه في فمها، وتلقيه في جوفها.. وإذا بدا لنا أن بعض الدواب كالأسود والذئاب ونحوها قادرة على انتزاع غذائها من الحياة، فإن ذلك لا يعدو في حقيقته أن يكون رضاعة من ثدي الطبيعة التي خلقها اللّه على هذا النظام البديع المعجز، الذي يجد فيه كل كائن رزقه الذي يحفظ عليه وجوده.. وكذلك الناس بين أقوياء وضعفاء، وبين ذوى حيلة ومن لا حيلة لهم... كلهم جميعا يرزقون من فضل اللّه، ويحصلون على ما قدّر لكل منهم من رزق... وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ}.
أي فكما ترزق هذه الدوابّ التي لا حيلة لها في تحصيل قوتها، كذلك ترزقون أنتم أيها المهاجرون، وقد بدا لكم أنه قد انقطعت عنكم أسباب معيشتكم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [6: هود].
وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي سميع لما تدعون به من حاجاتكم، عليم، بما تحتاجون إليه، وإن لم تسألوا شيئا.